فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

سورة الأعلى:
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى (1)}
تقدم معنى التسبيح وهو التنزيه عن كل ما لا يليق، والأمر بالتسبيح هنا منصب على {اسم رَبِّكَ}، وفي آيات أخر، جاء الأمر بتسبيح الله تعالى كقوله: {وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} [الإنسان: 26]. ومثل: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17].
وتسبيح الرب سبحانه كقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]، فاختلف في هذه الآية، هل المراد تسبيح الله أو المراد تسبيح اسمه تعالى، كما هو هنا؟
ثم اختلف في المراد بتسبيح اسم الله تعالى، وجاءت مسألة الاسم والمسمى.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الواقعة، عند قوله تعالى: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} [الواقعة: 74]، قوله: إن الباء هناك داخلة على المفعول كدخولها عليه في قوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم: 25]، وأحال على متقدم في ذلك، وحكى كلام القرطبي أن الاسم بمعنى المسمى، واستشهد له من كلام العرب بقول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ** ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

وقال: لا يلزم في نظري أن الاسم بمعنى المسمى هنا، لإمكان كون المراد نفس الاسم، لأن أسماء الله ألحد فيها قوم ونزَّهها آخرون، ووصفها الله بأنها بالغة غاية الحسن، لاشتمالها على صفاته الكريمة، كما في قوله: {وَللَّهِ الأسماء الحسنى فادعوه بِهَا} [الأعراف: 180]. وقوله تعالى: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110]. ثم قال: ولسنا نريد أن نذكر كلام المتكلمين في الاسم والمسمى هل الاسم هو المسمى أو لا؟ لأن مرادنا هنا بيان معنى الآية. اهـ.
فتضمن كلامه لاحمة الله تعالى علينا وعليه، احتمال كون المراد: تنزيه اسم الله عما ألحد فيه الملحدون، كاحتمال تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله، كما تضمن عدم لزوم كون الاسم هنا بمعنى المسمى، ولعلنا نورد محمل بيان تلك النقاط إن شاء الله.
أما تنزيه أسماء الله فهو على عدة معانٍ.
منها: تنزيها عن إطلاقها على الأصنام كاللات والعزى واسم الآلهة.
ومنها: تنزيهها عن اللهو بها واللعب، كالتلفظ بها في حالة تنافي لخشوع والإجلال كمن يعبث بها ويلهو، ونظيره من يلهو ويسهو عن صلاته، {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4-5]، أو وضعها في غير مواضعها، كنقش الثوب أو الفراش الممتهن.
ومنها: تنزيهها عن المواطن غير الطاهرة، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه لما في من نقش محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنه: صيانة الأوراق المكتوبة من الابتذال صوناً لاسم الله.
وعلى هذا تكون هذه الآية موضحة لآية الواقعة، وأن {اسم رَبِّكَ} واقع موقع المفعول به، وهو المراد بالتسبيح، وعلى أن المراد تسبيح الله تعالى، فقالوا: إن الاسم هو المسمى، كما قال القرطبي وغيره، وقالوا: الاسم صلة، كما في بيت لبيد المتقدم.
أما مسألة الاسم هل هو عين المسمى أم لا، فقد أشار إليها الفخر الرازي، وقال: إنه وصف ركيك.
أما قول الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، ولا يلزم في نظري كون الاسم بمعنى المسمى هنا، فإنه بلازم إلى بسط قليل، ليظهر صحة ما قاله.
وقد ناقشها الرازي بعد مقدمة، قال فيها: من الناس من تمسك بهذه الآية، في أَن الاسم نفس المسمى.
فأقول: إن الخوض في الاستدلال لا يمكن إلا بعد تلخيص محل النزاع، فلابد ها هنا من بيان أن الاسم ما هو والمسمى ما هو.
فنقول: إن كان المراد من الاسم هو هذا اللفظ، وبالمسمى تلك الذات، فالعاقل لا يمكن أن يقول: الاسم هو المسمى، وإن كان المراد من الاسم هو تلك الذات، وبالمسمى أيضًا تلك الذات. كان قولنا الاسم نفس المسمى، وأن تلك الذات هي تلك الذات. وهذا لا يمكن أن ينازع فيه عاقل، فعلمنا أن هذه المسألة في وصفها ركيكى، وذكر الاشتباه على المتأخرين بسبب لفظ الاسم الذي هو قسيم الفعل والحرف، إذ هو مراد المتقدمين في إطلاقه وإرادة مسماهـ.
ومن هنا تعلم: لماذا أعرض الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عن بيانها؟ وقد أوردنا هذا البيان المجمل، لنطلع القارئ إليه، وعلى كل تقدير عند المتقدمين أو المتأخرين فإنه إن وقع الاحتمال في الذوات الأخرى فلا يقع في ذات الله وأسمائه، لأن لأسماء الله أحكاماً لا لأسماء الآخرين، ولأسمائه سبحانه حق التسبيح والتنزيه والدعاء بها كما تقدم.
وهنا وجهة نظر لم أر من صرح بها، ولكن قد تفهم من كلام بعض المفسرين وتشير إليها السنة. وهي: أن يكون التسبيح هنا بمعنى الذكر والتعبد، كالتحميد والتهليل والتكبير.
وقد جاء في كلام الرازي قوله: ويكون المعنى سبح ربك بذكر أسمائه، ونحوه في بعض نُقول الطبري.
أما إشارة السنة إلى ذلك، فقد روى الطبري وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنها لما نزلت، قال صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأها: {سبحان ربي الأعلى}.
وكذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} [الواقعة: 74]، قال: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزلت هذه قال: «اجعلوها في سجودكم».
وساق القرطبي أثراً طويلاً في فضلها في الصلاة وخارج الصلاة، لكنه ليس بصحيح.
وجاء الحديث الصحيح «تسبحون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتكبرون ثلاثاً وثلاثين، وتختمون المائة بلا إله إلا الله».
وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، بعد أن نزلت عليه، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1]، إلا يقول: سُبحانك ربنا وبحمدِك اللَّهم اغفر لِي، وقالت: يتأول القرآن».
وقالت أم سلمة: إنه كان يقولها في قيامه وقعوده، ومجيئه وذهابه، صلى الله عليه وسلم: فيكون {سبح اسم ربك}: أي اذكر ربك.
وهذا ما دلت عليه الآية الأخرى في هذه السورة نفسها في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} [الأعلى: 14-15] فصرّح بذكر اسم ربك، كما جاء {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ}، فوضع الذكر موضع التسبيح، وهو ما أشرنا إليه. وبالله تعالى التوفيق.
{الَّذي خلق فسوى (2)}:
أطلق الخلق ليعم على كل مخلوق كما تقدم في السجدة، الذي أحسن كل شيء خلقه، والتسوية التقويم والتعديل، وقد خلق الله كل مخلوق مستوٍ على أحسن ما يتناسب لخلقته وما خلق له، فخلق السماوات فسواها في أقوى بناء، وأعلى سمك، وأشد تماسك، لا ترى فيها من تشقق ولا فطور، وزيَّنها بالنجوم، وخلق الأرض ودحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها وجعلها فراشاً ومهاداً، وخلق الأشجار فسوَّاها على ما تصلح له من ذوات الثمار ووقود النار وغير ذلك.
وهذه الحيوانات في خلقتها وتسويتها آية {أَفَلاَ ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت وَإِلَى السماء كَيْفَ رفعت وإلى الجبال كَيْفَ نصبت وَإِلَى الأرض كَيْفَ سطحت} [الغاشية: 17-20].
أما الإنسان فهو أحسن تقويم، كل ذلك مما يستوجب حقًّا له سبحانه أن يسبح اسمه في ذاته، وجميع صفاته، حيث جمع بين الخلق والتسوية، فلكمال القدرة والتنزيه عن كل نقص.
{وَالَّذي قدر فهدى (3)}:
أطلق هنا التقدير ليعم كل مقدور، وهو عائد على كل مخلوق، لأن من لوازم الخلق التقدير، كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقدر} [القمر: 49]، وقوله: {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قدراً} [الطلاق: 3]، وهذه الآية ومثيلاتها من أعظم آيات القدرة، وقد جمعها تعالى عند التعريف التام لله تعالى، لما سأل فرعون نبي الله موسى عن ربه قال: {قال فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى قال رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 49-50].
وقد تقدم بيان عموم قوله تعالى: {الذي خلق فسوى} [الأعلى: 2] وهنا قدر كل ما خلق، وهدى كل مخلوق إلى الله ما قدره له، ففي العالم العلوي قدر مقادير الأمور، وهدَى الملائكة لتنفيذها، وقدر الأفلاك، وهداها إلى ما قدر لها، كل في فلك يسبحون.
وفي الأشجار والنباتات قدر لها أزمنة معينة في إيتائها وهدايتها إلى ما قدر لها، فالجذر ينزل إلى أسفل والنبتة تنمو إلى أعلى، وهكذا الحيوانات في تلقيحها ونتاجها وإرضاعها، كل قد هداه إلى ما قدر له، وهكذا الإنسان.
وقد قال الفخر الرازي: إن العالم كله داخل تحت منطوق هذه الآية.
أما معناه بالتفصيل، فتقدم للشيخ رحمة الله تعالى وعليه في سورة طه عند الكلام على قوله تعالى: {قال رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50].
{سنقرئك فَلَا تنسى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يخفى (7)}:
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه معنى {نقرئكَ} في سورة طه في الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114]، وبينه بآية القيامة {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقرآنَهُ} [القيامة: 16-17].
وقوله: {فلا تنسى}: بحثه رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب مع ما ينسخ من الآيات فينساه، وسيطبع إن شاء الله تعالى مع هذه التتمة، تتمة للفائدة.
{فذكر إِنْ نَفَعَتِ الذكرى (9)}:
هل، {إِن} هنا بمعنى إذ أو أنها شرطية؟ وهل للشر مفهوم مخالفة أم لا؟ كل ذلك بحثه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بتوسّع في دفع إبهام الاضطراب، ورجع أنها شرطية، وقسم المدعو إلى ثلاثة أقسام مقطوع بنفعه، ومقطوع بعدم نفعه، ومحتمل وقال: محل التذكير ما لم يكن مقطوعاً بعدم نفعه، كمن بين له مراراً فأعرض، كأبي لهب، وقد أخبر الله عنه بمآله فلا نفع في تذكيره.
{سَيذكر مَنْ يخشى (10)}
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان الحكمة من الذكرى.
ومنها تذكير المؤمنين، وذلك في الكلام على قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} [الذاريات: 55] في سورة الذاريات.
{وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى (11) الَّذي يَصْلَى النَّارَ الكبرى (12)} أي بسبب شقائهم السابق أزلاً، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106].
{ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى (13)}
نفى عنه الضدين، لأن الإنسان بالذات إما حي وإما ميت، ولا واسطة بينهما، ولكن في يوم القيامة تتغير الموازين والمعايير، وهذا أبلغ في التعذيب، إذ لو مات لاستراح، ومع أنه يتلقى من العذاب ما لا حياة معه، كما في قوله تعالى: {لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يخفف عَنْهُمْ مِّنْ عذابهَا} [فاطر: 36].
وقوله: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17].
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان معنى ذلك في سورة طه عند الكلام على قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى} [طه: 74].
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تزكى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى (15)}
أسند الفلاح هنا إلى {من تزكى وذكر اسم ربه فصلى}، وفي غير هذه الآية أسند التزكية لمشيئة الله في قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أحد أَبَداً} [النور: 21]، وفي آية أخرى، نهى عن تزكية النفس.
وقد تقدم للشيخ بيان ذلك في سورة النور عند الكلام على قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أحد} [النور: 21] على أن زكى بمعنى تطهر من الشرك والمعاصي، لا على أنه أَخرج الزكاة، والذي يظهر أن آية النجم إنما نهى فيها عن تزكية النفس لما فيه من امتداحها، وقد لا يكون صحيحاً كما في سورة الحجرات {قالتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] والله تعالى أعلم.
{بَلْ تؤثرون الْحَيَاةَ الدنيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وأبقى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصحف الأولى (18) صُحُفِ إبراهيم وموسى (19)}
قرئ: {تؤثرون} بالتاء وبالياء راجعاً إلى {الأشقى الذي يَصْلَى النار الكبرى} [الأعلى: 11-12]، وعلى أنها بالتاء للخطاب أعم، وحيث إن هذا الأمر عام في الأمم الماضية، ويذكر في الصحف الأولى كلها عامة، وفي صحف إبراهيم وموسى، مما يدل على خطورته، وأنه أمر غالب على الناس.
وقد جاءت آيات دالة على أسباب ذلك منها الجهل وعدم العلم بالحقائق، كما في قوله تعالى: {وَمَا هذه الحياة الدنيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]، أي الحياة الدائمة.
وقد روى القرطبي عن مالك بن دينار قوله: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى؟
ومن أسباب ذلك أن الدنيا زينت للناس وعجلت لهم كما في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث} [آل عمران: 14].
ثم قال: {ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} [آل عمران: 14].
وبين تعالى هذا المآب الحسن وهو في وصفه يقابل {والآخرة خَيْرٌ وأبقى}، فقال: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله والله بَصِيرٌ بالعباد} [آل عمران: 15].
تأمل هذا البديل، ففي الدنيا ذهب وخيل ونساء والأنعام والحرث، وقد قابل ذلك لكه بالجنة فعمت وشملت، ولكن نص على أزواج مطهرة ليعرف الفرق بين نساء الدنيا ونساء الآخرة، كما تقدم في {أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} [محمد: 15]، {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ} [الواقعة: 19]، وغير ذلك مما ينص على الخيرية في الآخرة.
ولا شك أن من آثر الآخرة غالب على من آثر الدنيا، وظاهر عليه، كما صرَّح تعالى بذلك في قوله: {زُيِّنَ لِلَّذينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يوم القيامة والله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212].
فمن هذا يظهر أن أسباب إيثار الناس للحياة الدنيا هو تزيينها وزخرفتها في أعينهم بالمال والبنين والخيل والأنعام {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46].
وقد سيق هذا، لا على سبيل الإخبار بالواقع فحسب، بل إن من ورائه ما يسمى لازم الفائدة، وهو ذم من كان هذا حاله، فوجب البحث عن العلاج لهذه الحالة.
وإذا ذهبنا نتطلب العلاج فإننا في الواقع نواجه أخطر موضوع الإنسان، لأنه يشمل حياته الدنيا ومآله في الآخرة، ويتحكم في سعادته وفوزه أو شقاوته وحرمانه، وإن قرب مأخذ لنا لهو هذا الموطن بالذات من هذه السورة، وهو بضميمة ما قبلها إليها من قوله تعالى: {سَيذكر مَن يخشى وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى الذي يَصْلَى النار الكبرى} [الأعلى: 10-12]، وبعدها {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} [الأعلى: 14-15]، فقد قسمت هذه الآيات الأمة كلها أمة الدعوة إلى قسمين.
أما التذكير والإنذار، إذ قال تعالى: {فذكر إِن نَّفَعَتِ الذكرى} [الأعلى: 9] فهذا موقف النَّبي صلى الله عليه وسلم، وجاء تقسيم الأمة إلى القسمين الآيتين: {سَيذكر مَن يخشى} [الأعلى: 10] فينتفع بالذكرى وتنفعه، {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى} [الأعلى: 11] فلا تنفعه ولا ينتفع بها، ثم جاء الحكم بالفلاح: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} [الأعلى: 14] أي من يخشى {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} [الأعلى: 15] ولم يغفل عن ذكر الله تعالى، وهذا الموقف بنفسه هو المفصل في سورة الحديد، وفي معرض التوجيه لنا والتوبيخ وللأمم الماضية أيضًا {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].
فقسوة القلب وطول الأمد والتسويف: هي العوامل الأساسية للغفلة وإيثار الدنيا. والخشية والذكر: هي العوامل الأساسية لإيثار الآخرة ثم عرض الدنيا في حقيقتها بقوله: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ} [الحديد: 20]-إلى قوله- {والله ذُو الفضل العظيم} [الحديد: 21].
فوصف الداء والدواء معاً في هذا السياق. فالداء: هو الغرور، والدواء: هو المسابقة إلى مغفرة من الله ورضوانه.
وقوله: {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى}.
قيل: اسم الإشارة راجع إلى السورة، كلها لتضمنها معنى التوحيد والمعاد والذكر والعبادات، و{الصحف الأولى}: هي {صحف إبراهيم وموسى}، على أنها بدل من الأولى.
وجاء عند القرطبي: أن صحف إبراهيم كانت أمثالاً، وصحف موسى كانت مواعظ، وذكر نماذج لها.
وعند الفخر الرازي من رواية أبي ذر رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كم أنزل الله من كتاب؟ فقال: مائة وأربعة كتب على آدم عشر صحف، وعلى شيءث خمسين صحيفة: وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان».
وفي هذا نص على أن في القرآن مما في الصحف الأولى، وقد جاء ما يدل أن معان أخرى كذلك في صحف إبراهيم وموسى كما في سورة النجم في قوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى وَإبراهيم الذي وفى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} [النجم: 36-40].
وهذا يؤيد أنها أكثرها أمثالاً ومواعظ، كما يؤكد ترابط الكتب السماوية. اهـ.